تعتبر الزراعة من أقدم المهن التى عرفها المصريون بعد الانتقال من حياة التنقل والترحال إلى حياة الاستقرار فى وادى النيل ودلتاه، حيث أشارت المراجع التاريخية إلى أن بداية معرفة المصريين بالزراعة ترجع إلى عام 6000 قبل الميلاد، ومن وقتها وحتى الآن والزراعة تعتبر هى المهنة الأولى للمصريين، والمصدر الأساسى لتوفير القوت لهم ولأبنائهم، وعلى مدار الأعوام الماضية شهدت الزراعة رحلة صعود وهبوط، حيث كانت مصر دولة زراعية تعتمد على الزراعة لزيادة دخلها القومى، حيث عرفها العالم من خلال صادراتها من القمح والقطن وغيرها من الحاصلات، حتى تحولت إلى دولة مستوردة لكل شىء بما فى ذلك القمح التى تحتل المركز الثانى عالميا فى استيراده من الخارج، والقطن الذى فقد عرشه، وبذلك تحولت مصر من دولة زراعية إلى دولة لا زراعية ولا صناعية تستورد معظم احتياجاتها من الخارج وتفقد قرارها السياسى لهذا السبب.
الحديث عن الزراعة فى مصر ليس مجرد حديث عن مهنة يعمل بها ما يقرب من 30% من اجمالى القوى العاملة فى مصر، ولكنه حديث عن تاريخ مصر وتطورها ومدى تأثرها بالمتغيرات الدولية، ويرتبط بذلك تأثير الاستعمار عليها وكيف نجح فى تجويع مصر وتحويلها من دولة مصدرة للمنتجات الزراعية إلى دولة مستوردة لكل شىء، وهو ما انعكس بدوره على قرارها السياسى خاصة خلال فترة الثمانينات والتسعينات، وهو ما تجنى مصر ثماره حتى الآن.
دراسات تاريخية
فوفقا للدراسات التاريخية عرفت مصر الزراعة عام 6000 قبل الميلاد وارتبطت فى مصر بنهر النيل، وكانت أهم المحاصيل التى عرفها المصريون هى القمح، الشعير، الكتان، والبقوليات مثل الفول والعدس والترمس، كما عرفوا الخضراوات مثل البصل والخس والثوم، والفواكه مثل التين والرمان والكمثرى والعنب والنخيل، بالاضافة إلى زراعة البردى الذى استخدموه فى الكتابة، واللوتس والنيلة والخروب والحناء والزهور، كما عرفوا زراعة أشجار السنط والبلوط والأبنوس وغيرها، واهتم المصريون بتسجيل العمليات الزراعية ومواسمها على جدران المعابد، ولأهمية الزراعة فى مصر القديمة ابتكر الفلاح المصرى أدوات تعينه على تلك الحرفة منها الفأس والمحراث والمضرب والمنجل والجاروف والمكاييل المختلفة لوزن الحاصلات، ورغم ان المصريين القدماء لم يعرفوا نظام ملكية الأرض لأن الأرض كلها كانت ملك الملك، إلا أنهم قدسوها باعتبارها مصدر الخير لهم، كما قسم المصريون السنة إلى ثلاثة فصول زراعية وهى «أخت» أى الفيضان، و«برت» أى فصل البذور، و«شمو» أى الحصاد.
النيل أساس الزراعة فى مصر
وكشف الباحث محمود مندراوى، مفتش آثار المنيا الشمالية، فى دراسته عن الزراعة بمصر الفرعونية أن النيل كان هو أساس الزراعة فى مصر القديمة، حيث فرض فيضانه على المجتمع الزراعى المصرى صفتين هامتين هما الوحدة والنظام، لدرأ مخاطر الفيضان، والاستفادة من مياه النيل، وأكد أن الشرطة أقيمت فى عهد الملك مينا لتوزيع مياه النيل بالتساوى على الأهالى، والمرور على السدود والجسور، ونظراً لأهمية النيل أقام المصريون عليه المقاييس لقياس منسوب النيل، وكان من أهم الأعمال التى تدنس تاريخ المصرى القديم، وتؤثر فى أعماله ويجب أن يتبرأ منها قبل الحساب هى تلويث ماء النهر حيث تتضمن الاعترافات جملة «أنا لم ألوث ماء النهر» كدليل على براءة الانسان وعدم ارتكابه أعمال سيئة فى الدنيا، وحتى فى العصر الرومانى واليونانى ظل الاهتمام بالزراعة قائما حتى أن مصر كانت تعد مصدر القمح للامبراطورية الرومانية التى كانت تنتظر كل عام شحنة «القمح السعيد» التى تأتيها من مصر.
قاطرة التنمية
وفى العصر الحديث زاد الاهتمام بالزراعة خاصة فى عهد محمد على والذى قرر انشاء دولة حديثة فى مصر عمادها الزراعة والصناعة معا، حيث اهتم بمشروعات الرى وحفر الترع واقامة القناطر والخزانات على النيل، ومن أهمها ترعة الإبراهيمية والرياحات الثلاثة الكبرى (البحيرى والتوفيقى والمنوفى) وهو ما ترتب عليه زيادة مساحة الأراضى الزراعية من مليون فدان عام 1813 إلى 3 ملايين فدان عام 1852، كما تم انشاء القناطر الخيرية عام 1861 مما ساهم فى ادخال نظام الرى الدائم إلى الوجه البحرى، وكانت من أهم المحاصيل التى تزرع فى هذه الفترة: القمح والأرز والشعير وقصب السكر والكتان والقطن، وعرفت مصر تصدير القطن طويل التيلة الذى أصبحت له شهرة عالمية، ومن هنا احتلت مصر مكانة عالمية فى تصدير القطن وبدأ العمل بنظام الدورة الزراعية التى تضمنت تخصيص مساحات لزراعة القطن على حساب المحاصيل الأخرى، وفى النصف الأول من القرن العشرين تم انجاز عدد كبير من مشروعات الرى حيث تم انشاء خزان أسوان وقناطر زفتى عام 1902، وقناطر إسنا عام 1909 ثم قناطر نجع حمادى عام 1930، وتوسعت مصر فى انتاج القطن طويل التيلة على حساب القمح الذى بدأت مصر فى استيراده من الخارج، وبعد الحرب العالمية الثانية أصبح القطن هو عماد الاقتصاد المصرى حيث يمثل 90% من قيمة الصادرات المصرية، واعتمد عليه الفلاح المصرى بشكل أساسى وأصبحت المساحة المزروعة به تمثل ثلثى مساحة الأراضى الزراعية، وخلال النصف الثانى من القرن العشرين تم انشاء السد العالى للتحكم فى مياه النيل، وهو ما ساعد على حماية مصر من خطر الفيضان والجفاف وساهم فى توفير المياه اللازمة للزراعة طول العام، وساعد على زيادة مساحة الأراضى الزراعية، كما صدر قانون الاصلاح الزراعى رقم 53 لسنة 1966 والذى ساعد على تنظيم أعمال الزراعة وتم تعديله أكثر من مرة بما يتناسب مع مقتضيات الحاجة، وشهدت فترة السبعينات والثمانينات بداية انتهاء قبضة الدولة على الزراعة، حيث تمتع الفلاح بحرية أكبر فى زراعة المحاصيل التى يريدها، وبدأت وزارة الزراعة فى تنفيذ برامج التنمية الزراعية وارتفع معدل النمو الزراعى السنوى المتوسط من 2.6 % فى الثمانينات إلى 3.4% فى التسعينات ليصل إلى 3.97% فى بداية الألفية الثالثة، وتزايدت مساحة الأراضى الزراعية من 3.2 مليون فدان إلى 8.5 مليون فدان بما يعادل 3.5 % من مساحة مصر.
دخول القطاع الخاص
وشهد عام 2007 بداية دخول القطاع الخاص فى مجال الزراعة حيث شجعت الدولة المستثمرين على الدخول فى مشروعات استصلاح الأراضى وقامت بتوفير البنية الأساسية للمساحات المخصصة لهم من مياه للرى وطرق وخدمات ومرافق، ومنحتهم إعفاءات ضريبية، واهتمت الدولة بالمشروعات الزراعية العملاقة ضمن خطة لزيادة المساحة المزروعة لتصل إلى 12 مليون فدان عام 2017، حيث بدأ العمل فى تنفيذ مشروعات غرب النوبارية لاستصلاح 255 ألف فدان بتكلفة 500 مليون دولار، ومشروع توشكى الذى يعتمد على شق قناة بطول 51 كيلو متراً لضخ مياه بحيرة ناصر لأراضى الصحراء الغربية لاستصلاحها بتكلفة 5.9 مليار جنيها، بالاضافة إلى مشروع ترعة السلام لتوصيل مياه النيل لأراضى سيناء لاستصلاح 620 ألف فدان بمنطقة غرب القناة وسيناء، بتكلفة 5.7 مليار جنيه، كما أعلنت الدولة عن تنفيذ مشروع شرق العوينات لاستصلاح 255 ألف فدان بالصحراء الغربية اعتمادا على المياه الجوفية، ومشروع درب الأربعين فى الصحراء الغربية لاضافة 12 ألف فدان تروى بالمياه الجوفية.
عبدالفتاح السيسى
ثم جاء الرئيس عبدالفتاح السيسى ليعلن ضرورة الاهتمام بالمشروعات الزراعية لتوفير الأمن الغذائى للمصريين، حيث تم افتتاح مشروع المليون ونصف مليون فدان خلال الأشهر القليلة الماضية، لزيادة مساحة الأراضى الزراعية ولتحتل الزراعة مكانة أكبر فى الاقتصاد، فإذا كانت الزراعة الآن تمثل 14.8% من الناتج المحلى وتمثل 20% من الصادرات السلعية، ويعمل بها 30% من قوة العمل، فلابد أن تكون للزراعة مكانة أكبر وأهم لأن غياب الجدية طوال الأعوام الماضية، جعل أحوال مصر تتبدل من دولة مصدرة للمحاصيل الزراعية إلى دولة مستوردة وهو ما انعكس على قرارها السياسى طوال فترة السبعينات وحتى العشر سنوات الأولى من الألفية الثالثة، لذلك لابد من الاهتمام بالزراعة على اعتبار أن الأمن الغذائى جزء لا يتجزأ من الأمن السياسى للبلاد، فانهيار الزراعة وعدم الاهتمام بها انعكس سياسيا على مصر وهو ما يريده المصريون فى هذه المرحلة الجديدة.