عندما تسأل أيّ مطوّر عقاري عن وتيرة مبيعاته ومَن هم المشترون في هذه المرحلة، يأتي الجواب إنّهم اللبنانيون المقيمون منهم والمغتربون. ولكنّ الوقائع الّتي تظهرها السّوق العقاريّة تشير إلى أنّ اللبنانيين المغتربين هم حاليًّا عصب الطلب على الشقق السكنية، على الرغم من التباطؤ النسبي في اتخاذ قرارات الشراء من المغتربين لاعتبارات تتعلّق بأوضاعهم الماليّة أو تتعلّق بالمناخ السياسيّ والأمني في الوطن. أضِف إلى ذلك، أنّ انكفاء الخليجيين عن السّوق اللبنانيّة دفع بالمطوّرين إلى تكييف مشاريعهم بما يتلاءم وطبيعة الطلب، فصار هناك تحوّل نحو الشقق المتوسّطة والصّغيرة حتى في المشاريع السّكنيّة ضمن بيروت الإداريّة.
لم يتبدّل اعتماد السّوق العقاريّة على المغتربين اللبنانيين، فمنذ أن انقطع الاستثمار الخليجي، صار المغتربون وحدهم عصب هذه السّوق ومناعتها. بعض الخبراء يعتقدون أنّ المغتربين يمثّلون أكثر من ثلث الاستثمارات الخاصّة والعامّة في لبنان، وأنّهم مصدر غالبيّة المبيعات العقاريّة خلال السّنوات الأخيرة، رغم أنّ قدرتهم على الالتزامات الطّويلة الأمد تقلّصَت بسبب الأزمة الّتي تضرب البلدان المتواجدين فيها.
المنزل حلم المغترب
في السّنوات الخمس الأخيرة، عانى لبنان من تداعيات الأزمة السّوريّة. أبرز أوجه هذه التّداعيات تمثّل في تدهور العلاقات الخليجيّة اللبنانيّة، إمّا بسبب المخاوف من حصول عمليّات أمنيّة في لبنان، أو بسبب مواقف لبنانيّة متباينة مع المواقف الخليجيّة من الأزمة السّوريّة. في نهاية المطاف، انتهى الأمر بانقطاع الخليجيين عن الاستثمار وتوظيف أموالهم في السّوق العقاريّة في لبنان، هذا الأمر كان كافيًا ليتصدّر المغتربون اللبنانيون لائحة المبيعات العقاريّة في لبنان. وبحسب الخبراء في السّوق العقاريّة، فإنّ المغتربين لم يتركوا هذه السّوق أصلًا على مدى الهجرات المتتالية، بل كانوا دائمًا مشدودين إلى البلد الأم وإلى الرّوابط العائليّة بين الشباب المهاجرين وبين عائلاتهم في لبنان، ليصبح شراء شقّة في لبنان هو آليّة الارتباط ".
هكذا بدا أنّ أسعار العقارات في لبنان غير قابلة للتّراجع في ضوء وجود طلب قويّ. "إنّ متوسّط دخل اللبنانيين المغتربين يفوق بمرّتَين أو ثلاث مرّات متوسّط دخل أولئك العاملين في السّوق المحلّيّة" يقول الخبير. ويشير إلى أنّ هذا العامل كان أساسيًّا وراء منع انهيار الأسعار خلال السّنوات الخمس الماضية حين اشتدّت الأزمة في لبنان بسبب تداعيات الوضع السّوري وبقاء لبنان من دون رئيس للجمهوريّة لسنتين متتاليتين وما يزيد. صحيح أنّ الطلب المحلّي لا يزال موجودًا، إلّا أنّه لا يغطّي كلّ المستويات المعروضة من العقارات المبنيّة. فالمساحات الّتي يطلبها العاملون في لبنان هي مساحات صغيرة وفي مناطق تقع على أطراف العاصمة بيروت وأبعد. أمّا المساحات الّتي يطلبها المغتربون فهي المساحات المتوسّطة الحجم والكبيرة الحجم الّتي تقع في العاصمة وصولًا إلى وسط بيروت، باستثناء العقارات ذات المساحات الأضخم الّتي تزيد على 400 متر مربّع، والّتي تكون في الغالب مخصّصة للأثرياء وأصحاب الدّخول الأكثر ارتفاعًا، سواء كانوا عاملين في لبنان أو في الخارج.
النّوع الأخير من العقارات المبنيّة تعرّض لهزّة لم تؤثّر في أسعاره رغم وجود مخزون كبير لم يتمّ تصريفه على طول خطّ الشاطئ اللبناني على واجهة بيروت البحريّة، وذلك نظرًا إلى قدرة المطوّرين على الإحتمال في انتظار تحسّن الاستثمارات.
أمّا النّوع الثّاني، أي الطّلب الّذي يكون مصدره المغتربون، فهو كان الأكثر إنتاجًا وتشييدًا خلال السّنوات الخمس الماضية، السّبب هو أنّ غالبيّة المطوّرين المهنيين في السّوق العقاريّة كانوا في بداية الأزمة السّورية قد اتّخذوا قرارات بالتوقّف عن تشييد الأبنية الفخمة ذات المساحات الأضخم، من أجل الإنسجام أكثر مع طبيعة السّوق التّقليديّة والطّلب النّاتج من المغتربين. لذا، هم كانوا أوقفوا تشييد المشاريع الكبيرة وعكفوا على تنفيذ مشاريع مهمّة تناسب احتياجات السّوق الحاليّة، أي المغتربين والأسر العاملة في لبنان.
ركود وليس أزمة
هذا القرار كان وراء بقاء السوق العقارية بعيدة خطوات عن الأزمة السورية، وهو الذي منع السوق من الانهيار، وخصوصا أنّ الطلب الناتج من المغتربين لم يتوقف يومًا حتى في أصعب المراحل.
وما يكرّس هذا الأمر، أنّ هذا النوع من الطلب كان معلقًا على تأثيرات خارجيّة كثيرة، أبرزها انكشاف دخل المغتربين على الأسواق الّتي يعملون فيها، وهذا بالتّحديد ما حصل قبل سنتين حين بدأت أسعار النفط تنهار إلى مستويات قياسيّة تزيد على ٧٠ في المئة، إذ كان يتوقع أن ينهار الطلب على الشقق في لبنان وأن تهوى أسعارها أيضاً، أيا من ذلك لم يحدث، فالأبناء الواردة من المغتربين العاملين في دول الخليج النفطية، لم تتأثر مداخيلهم الأساسية، إذ تقول مصادر واسعة الاطلاع، إنّه بعد سنتين على انهيار أسعار النفط، استمرّ الجزء الأكبر من مداخيل اللّبنانيين العاملين في الخليج ضمن مستوياته السّابقة رغم أنّ المخصّصات الإضافيّة التي كان بعض المغتربين يتقاضونها قد تقلّصت.
في الواقع، نتائج هذا الأمر تمثلت في أضعاف الحافز للالتزام بشراء شقة على المدى المتوسّط والمدى الطويل، لكنه لم يؤد إلى إلغاء الرّغبة الكامنة لدى المغتربين بشراء عقار في لبنان ترجمة للرّوابط العائليّة الّتي تشدّهم الى بلدهم الأمّ دائمًا.
وبالتّالي، لم يعد هناك شك بأنّ جاذبية العقار في لبنان لا تزال قائمة، وإن كانت السّوق تعاني من الضّعف الّذي ضرب بعض مفاصلها، إلّا أنّ هذا الأمر كان محدودا حتّى الآن، ولا تزال الأسعار تقاوم إلا ضمن حالات إفراديّة لمطوّرين اتخذوا قرارات خاطئة في تطوير عقارات بمساحات لا تناسب الاحتياجات الفعليّة ولا معدّلات الدّخل، أو توسّعوا بشكل غير متناسب مع قدراتهم الفعليّة ما جعلهم مدينين للمصارف بمبالغ كبيرة مقابل جمود في المبيعات.
فرص أمام المغتربين
أدّى هذا الوضع إلى أزمة لدى بعض المطوّرين، فيما هناك عدد كبير لا يزال قادرا على الصّمود في وجه الجمود والفوائد المصرفية، الصامدون ينتظرون انتخاب رئيس للجمهورية يعيد إحياء الثقة بلبنان ويحفّز المبيعات، وهم يعوّلون على الحوافز الّتي يطرحها مصرف لبنان لتمويل شراء الشقق السكنيّة، "إذ لم يعد هناك فرق بين العاملين في السّوق المحلّيّة وبين المغتربين الّذين صار في إمكانهم الحصول على تمويل من مصرف محلّي لشراء الشقة الّتي تناسبهم في لبنان"، وفق أحد المصرفيين. رغم ذلك، بدا أنّ مصرف لبنان يريد تقديم المزيد لهذا القطاع المتّصل بحلقات من القطاعات الأخرى المكمّلة التجارية والفنية وسواها. ولذلك يعمل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة على مشروع يسمح بإنشاء صناديق للاستثمار العقاريّ تشتري العقارات الجامدة في السوق وتحتفظ بها للسنوات المقبلة لتبيعها بأسعار أعلى لاحقًا. الهدف من الصندوق هو جذب مبالغ طازجة إلى القطاع ليستثمرها على فترات زمنيّة، متوسّطة وبعيدة الأمَد، فتشتري العقارات بأسعار مقبولة وتنقذ المطوّرين الواقعين بأزمة. مسموح لهذه الشّركات أو الصّناديق أن تشتري عقارات مبنيّة أو قيد الإنشاء مُمَوَّلة من المصارف، وتسدّد الثّمن بتمويل مصرفيّ جديد بنسبة ٦٠ في المئة من قيمة العقارات، وتضخّ مبالغ طازجة بنسبة ٤٠ في المئة من مستثمرين خارج القطاع الخاص.
وبحسب المصرفيين، فإنّ هذه الفرصة ستكون مناسبة جدًّا للاستثمارات الخارجيّة ولا سيّما المغتربين اللّبنانيين الّذين بات بإمكانهم الاستثمار في هذه السّوق وتوظيف أموالهم في بلدهم الأمّ، وليس شراء شقّة للسّكن فقط.