يأتي توجه المملكة لتفعيل خطط التنويع الاقتصادي وتقليل الاعتماد على النفط خطوة مهمة لمعالجة القصور في جوانب تنويع مصادر الدخل، ويأتي تعزيز التعاون وعلاقات الشراكة والاتفاقيات الأخيرة للمملكة مع كل من روسيا وفرنسا لتطوير التنمية المشتركة توجه مهم لتنشيط الاقتصاد وخدمة الأجيال القادمة.
وقد بدأت المملكة خطواتها بإعادة النظر في تعزيز خطط التنويع الاقتصادي استناداً إلى المزايا النوعية التي تتمتع بها والتي تكفل النجاح وضمان إيجاد قنوات أخرى غير النفط، لتوسيع مصادر الدخل القومي وتدعيم التنمية المستدامة والارتقاء بمستوى المعيشة، ومن هذا المنطلق حظيت الاتفاقيات الثنائية بين المملكة ودولة روسيا الاتحادية، وبعد ذلك الاتفاقيات السعودية مع جمهورية فرنسا باهتمام بالغ بهدف ترقب آثارها وانعكاساتها على الاقتصاد السعودي.
تكامل العلاقات وفق أسس اقتصادية
«الجزيرة» استعرضت آراء عدد من الاقتصاديين حول انعكاسات هذه الشراكات على الاقتصاد السعودي، حيث أوضح الاقتصادي فضل البوعينين، أن الشراكة الاقتصادية للمملكة مع روسيا وفرنسا أعادت التداخل بين السياسة والاقتصاد وترتيب الأولويات الدولية على أسس اقتصادية، بحيث أصبح الاقتصاد المحرك الرئيس للحكومات والدول، وعليه تبنى القرارات ومن أجله ترسم الاستراتيجيات، كما يمكن القول: إن غالبية القرارات السياسية لا تخلو من الأبعاد الاقتصادية المحركة والموجهة لها، وإن لم تكن المسيطرة عليها بشكل كلي.
وأضاف البوعينين بأن الدفع بالعلاقات السعودية الروسية إلى نطاقات أرحب تتوافق مع حجم الدولتين بما يحقق المصالح المشتركة ويخلق التوازن الاقتصادي الأمثل، والأمر عينه ينطبق على العلاقات السعودية الفرنسية، مشدداً على أن المملكة باتت أكثر حرصاً على دعم وتوثيق علاقاتها مع الدول الفاعلة في المجتمع الدولي ذات الثقل في مجلس الأمن على أسس متينة، حيث تعتمد الشراكات الاقتصادية والمصالح المشتركة أساسا لها، فالمملكة في أمس الحاجة لزيادة حجم طاقتها الإنتاجية من الكهرباء، وهو أمر يحتاج إلى تقنيات جديدة مرتبط بالطاقة البديلة، وبخاصة الطاقة الشمسية، الأمر عينه ينطبق على قطاعات الإسكان والفضاء والاستثمار والصناعة والشؤون العسكرية، ما يعزز أهمية عقد الشراكات النوعية المحققة للمصلحة الوطنية.
وينتقل البوعينين في حديثه إلى نقطة أخرى وهي كيف للاتفاقيات الاقتصادية المشتركة أن تربط بين الحاجة والمصلحة في آن واحد ويقول: المملكة في أمس الحاجة لتطوير قطاعاتها التنموية واستكمال بناها التحتية؛ وتوفير احتياجاتها من التقنيات المتطورة؛ وتطوير قطاعاتها الصناعية، وحماية قطاعها النفطي من المتغيرات العالمية؛ والتوسع في عقد التحالفات الدولية، ومن مصلحتها عقد شراكات دولية محققة لتلك الاحتياجات من جهة، وداعمة في الوقت عينه للمصالح الوطنية والقومية من جهة أخرى، والأمر نفسه ينطبق على روسيا وفرنسا اللتان تبحثان عن مصالحهما في المنطقة أسوة بالدول الأخرى، ومن هنا نجد أن الشراكات الاقتصادية النوعية مع روسيا وفرنسا، لن تكون على حساب الدول الأخرى، بل ربما كانت جزءا من منظومة تكاملية تحقق التوازن الأمثل للعلاقات السعودية، كما أن الاعتماد في العلاقات الاقتصادية والدولية، على دولة واحدة، مهما كان حجمها وقوة تأثيرها لا يخلو من المخاطر المدمرة، حيث إن تحقيق التوازن في العلاقات الدولية يسهم في دعم أمن واستقرار المملكة، ويحقق مصالحها، ويزيد من الخيارات المتاحة أمامها، ويدعم في الوقت عينه الجهود المبذولة لضمان استقرار المنطقة ومعالجة مشكلاتها الطارئة.
ويختتم البوعينين، حديثه بأن تعزيز علاقات المملكة مع الدول الفاعلة في المجتمع الدولي من خلال الشراكات الاقتصادية الملبية للاحتياجات الداخلية والمحققة للمصالح القومية، وبما يضمن تشكيل قاعدة من العلاقات الدولية المتميزة المحققة للتوازن الأمثل بين الدول الكبرى هو عمل إستراتيجي حذق سيسهم في دعم المملكة دولياً، ويزيد من خياراتها المستقبلية، ويجعلها أكثر قدرة على تفعيل رؤيتها السياسية في المنطقة وبما يحقق مصالحنا الوطنية والقومية بإذن الله.
تحرك استراتيجي يؤسس لنهضة اقتصادية
فيما قال الأكاديمي الدكتور عبدالحفيظ محبوب: إن المملكة لا تود أن تتأخر عن بقية دول الخليج في تنويع الاقتصاد، فالمملكة أنفقت فعلياً 4.4 تريليون ريال خلال خمسة أعوام، صرف منها 30% على مشاريع رأسمالية مختلفة، معتمدة بشكل كبير على إعادة تدوير عائدات النفط، وضخها في قطاعات جديدة، مما خلق العديد من القطاعات الجديدة الواعدة، والتي تنوعت ما بين البناء والاتصالات إلى الصناعات التحويلية.
واستطرد الدكتور عبدالحفيظ قائلاً: ركزت خطط التنمية الخمسية المتعاقبة على أهداف وبرامج لمعالجة التحديات الاقتصادية، والتحول من اقتصاد يعتمد بشكل كبير على مصدر واحد قابل للنضوب إلى اقتصاد متنوع في قاعدته الإنتاجية، لتشمل مجالات أوسع يسهم القطاع الخاص بدور أساسي في التنمية، وقد تمكنت المملكة من تجاوز الأزمات الإقليمية والعالمية من خلال الاعتماد الكبير على إيرادات النفط، واحتفظت بموقع متقدم على المستوى العالمي ضمن قائمة الدول العشرين، لكنها فشلت في تعزيز دور القطاع الخاص عن طريق خصخصة بعض المشاريع بشكل كلي أو جزئي، ولا يزال معدل العمل الحر في دول مجلس التعاون الخليجي من بين الأدنى عالمياً، حيث لا تتجاوز 3% من العاملين يعملون لحسابهم الخاص حسب تقرير صادر من البنك الدولي.
مشيراً إلى أن المملكة وبسبب تنفيذ هذه الأهداف واجهت نوعاً من التضارب خلال فترة الطفرة النفطية، واستمر ميزان المدفوعات في تحقيق فائض لعامه السادس عشر على التوالي ليبلغ في 2014م نحو 288 مليار ريال، واحتياطيات تقدر بنحو 763 مليار دولار، لكن بعد تراجع أسعار النفط الحاد منذ منتصف العام الماضي، فإن الاقتصاد السعودي بحاجة إلى نهج جديد يتمثل في التركيز على القطاعات القادرة على التأثير على بقية الأنشطة الاقتصادية، وخلق فرص عمل لمواطنيها توفر بدائل للعمل في القطاع العام.
ولفت الدكتور عبدالحفيظ محبوب، إلى أن المملكة وبفضل الرؤية السياسية الحكيمة للقيادة الرشيدة استثمرت العوامل الجيواستراتيجية والمتغيرات العالمية، حيث تمكنت من إبرام اتفاقيات متعددة الأطراف، مستدلاً على ذلك بتوجه الرياض وموسكو نحو خلق إستراتيجية تقضي بنقل تقنية صناعة الطاقة، لتوظيف الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، مما فتح الباب بشكل خاص للاستثمار في مجال توليد الطاقة الكهربائية، والتي تستنزف نسبة كبيرة من الإنتاج المحلي.
مضيفاً بأن العلاقة تبرز ملمحاً مهماً من التعاون النوعي لتحريك التعاون السعودي – الروسي بشكل استراتيجي في كافة المجالات الاستثمارية والصناعية والتجارية والزراعية، خصوصاً وأن روسيا تمتلك مساحات كبيرة من الأراضي يمكن استثمارها لضمان الأمن الغذائي للمملكة، بعدما اتخذت المملكة إستراتيجية الحفاظ على المخزون المائي المحلي بتقليل زراعة القمح والعلف الذي يستهلك كميات كبيرة من المياه، في الوقت الذي تسعى فيه موسكو لنيل حصة بمشروعات البنى التحتية في المملكة والمقدرة بـ 500 مليار دولار.
ويشير الدكتور عبدالحفيظ، إلى أن المملكة وروسيا ضمن دول مجموعة العشرين الكبرى في العالم، ولدى كل منهما نقاط قوة ومزايا تنافسية عالية في مجالات مختلفة، ويمكن استثمار تلك المزايا لصالح اقتصاد البلدين، خصوصاً وأن المملكة لديها استثمارات أجنبية تبلغ 208 مليار دولار تسمح للشركات الأجنبية وبينها الشركات الروسية بالتملك بنسبة 100% في جميع القطاعات، مع استثناء بعض القطاعات التي تستوجب وجود شريك محلي وهي قطاعات الخدمات المالية، الاتصالات، الخدمات الاستشارية المهنية، تجارة الجملة والتجزئة، مع عدم فرض ضريبة دخل، أو ضريبة على القيمة المضافة، أو ضريبة مبيعات، أو ضريبة ملكية، مع وجود معدل ضريبي منافس على أرباح الشركات قدره 20% من الأرباح، مع السماح بترحيل الخسائر.
وعرج الدكتور عبدالحفيظ، في حديثه على التحالف السعودي الفرنسي والذي دخل مرحلة جديدة من تنفيذ الاتفاقيات في مجالات الدفاع والاقتصاد والأمن والسلام، منوهاً بالتوجه نحو ترسيخ الشراكة بين البلدين، وإعطائها أبعادا جديدة، خصوصاً وأن فرنسا ثالث أكبر مستثمر في المملكة، مشدداً على أن الرياض وباريس ترغبان في تعاون بعيد المدى يتناول سوق العمل والتأهيل والتدريب والبحث العلمي وتقاسم التكنولوجيا، لتحقيق نهضة تنموية تساهم في تنويع مصادر الدخل، لأن مستقبل المنطقة العربية مرهون بتحقيق نهضة اقتصادية يقودها الخليج.
مكانة المملكة تدعم التنوع الاقتصادي
من جهته قال الاقتصادي مسلط العجرفي إن متانة اقتصاد المملكة وحضورها السياسي القوي والمؤثر عالميا، يعززان من قدرتها على توسيع قاعدة التنوع الاقتصادي في ظل الهزات التي طالت أسعار النفط في الآونة الأخيرة، من خلال الشراكات النوعية ذات الطابع الاستراتيجي البعيد المدى مع الدول الأخرى، مستشهدا بالشراكة الأخيرة التي تضمنت توقيع اتفاقيات مع دول كروسيا وفرنسا، معتبرا أن سوقي هذين البلدين من الأسواق الواعدة والمهمة والتي يمكن لرجال الأعمال الدخول فيها بقوة في جميع المجالات سواء في الصحة أو الزراعة أو الصناعة بأنواعها أو النقل وكذلك البنية التحتية، ناهيك عن نقل التطور التقني والمعرفي الذي وصلت إليه روسيا وفرنسا الى المملكة بما ينعكس بالفائدة المرجوة والمتوقعة على جميع الأطراف.
واستطرد العجرفي بالحديث عن العلاقة السعودية – الروسية قائلاً: الجانب الروسي دائماً ما يحرص على توجيه الدعوة لنا كمستثمرين سعوديين وهو ذات الأمر من حيث التبادل التجاري الذي يتطلع القائمون عليه في كلا الجانبين أن يفوق الأرقام الضعيفة حالياً والتي لا تتجاوز المليار دولار لتصل إلى أكثر من 8 مليارات دولار مع العام 2020م، كما يجب ألا ننسى الثقل السعودي وكذلك الروسي في سوق النفط العالمي وبالتالي التقارب الاقتصادي السعودي الروسي سيفتح آفاقًا جديدة في موازين القوى الاقتصادية وكذلك السياسية، لذلك سننتظر انعكاسات ايجابية على اقتصادنا السعودي في صناعة النفط والطاقة والغاز بالإضافة إلى مزيد من الاستثمارات المشتركة في مجالات البنى التحتية.
وأشار العجرفي إلى أن الاتفاقيات التي أبرمتها المملكة مؤخراً مع فرنسا وروسيا، حتى وإن كان منطلقها سياسياً استراتيجياً، إلا أن الوضع العام في حجم العلاقات والتبادل التجاري مع فرنسا في نمو مطرد وبأرقام تتجاوز الـ 30 مليار دولار، مضيفاً أن الاتفاقيات الأخيرة ستعزز التعاون في مجالات المال والصحة والطاقة وغيرها من المجالات.
تعزيز فرص الاستثمار
إلى ذلك ذكر الدكتور عبدالله المغلوث أن الاتفاقيات المبرمة مع كل من روسيا وفرنسا تأتي تأكيدا لقوة العلاقات في المجال السياسي والاقتصادي والتجاري، والتي يسعى إليها البلدان إلى توثيق علاقتهما في إطار الشراكة بعيدة المدى.
وحول انعكاس هذه الاتفاقيات على اقتصاد المملكة يقول الدكتور المغلوث: سوف تأتي هذه الاتفاقيات بمردود إيجابي من حيث توطيد العلاقات والشراكات الاقتصادية والاستثمارات المتبادلة المباشرة، مضيفاً بأن هناك شراكات اقتصادية وإستراتيجية نوعية نوقشت وهي الشراكة في المجال العسكري البحري، ودعم برنامج تنوع مصادر الطاقة خاصة في القطاع النووي، وزيادة الاستثمارات الاستراتيجية في النقل والطيران المدني والأقمار الصناعية، وتطوير ودعم المجال الصحي.
ويختتم الدكتور المغلوث، حديثه بأن هذه الاتفاقيات سوف تعزز فرص الاستثمار في القطاع الخاص وتذليل المعوقات التي تحد من نموه، والمملكة لديها فرص استثمارية ضخمة في مجالات النفط والطاقة والغاز والبتروكيماويات، بالإضافة إلى البناء والتشييد والإسكان، كما أن هناك نقلة نوعية في انشاء المفاعلات النووية لاستخدامها للأغراض السلمية، وخصخصة النقل والصحة والصوامع، وترابط المصالح مع الدول العظمى وتقوية صلاتها بالمملكة، وتعزيز تحالفاتها لمواجهة التحديات بالشرق الأوسط.