عكست اجتماعات مجموعة العشرين، والمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، وعدد كبير من المؤسسات الفكرية والبحثية، إدراكاً متزايداً للمخاطر التي تهدد الاقتصاد العالمي والتي يفرضها الانكماش وعدم الاستقرار المالي المتزايد الحِدة. وفي إطار الجهود الرامية إلى تخفيف هذه المخاطر، يشكل المسار الذي ستسلكه الصين أهمية خاصة. وبرغم أن تجنب الهبوط الحاد في الصين شرط ضروري لتحقيق التعافي العالمي فإنه غير كاف في حد ذاته.
خلافاً لنصيحة العديد من خبراء الاقتصاد الصينيين، اختار صناع السياسات في البلاد عدم اتباع النهج الغربي التقليدي المتمثل في استخدام أسعار الصرف المرنة كأداة رئيسية لامتصاص الصدمات الناجمة عن تدفقات رأس المال المتقلبة، وبالتالي تحرير السياسة النقدية لتوفير السيولة اللازمة لإجراء التعديلات البنيوية المحلية. وقد أرضى هذا خبراء الاقتصاد الغربيين والأسواق المالية العالمية، التي تنفست الصعداء عندما أكَّد قادة الصين التزامهم بالحفاظ على الرنمينبي مستقرا.
وكان مكمن الخوف أن تسعى الصين إلى فرض سعر صرف أضعف للفرار من الانكماش، فيفضي هذا إلى جولة أخرى من خفض القيمة تنافسياً على مستوى العالم بل وحتى المزيد من الانكماش. ولحسن الحظ، أدرك قادة الصين أنه إذا ظل العالم غارقاً في ركود الموازنات العامة فإن الافتقار إلى الطلب الكلي من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض معدل النمو في بلادهم مع استمراره في إضعاف التجارة.
ولكن بطبيعة الحال، تظل الصين في احتياج إلى إيجاد وسيلة للتعامل مع تدفقات رأس المال إلى الخارج، في حين تواصل تنفيذ الإصلاحات البنيوية اللازمة لوضع اقتصادها على مسار النمو المستدام في الأمد البعيد. وكما زعمنا مؤخرا، فإن المفتاح سوف يكون الحفاظ على معدل النمو السنوي عند مستوى 6.5% تقريبا، وفي الوقت نفسه ملاحقة خطة تثبيت الاستقرار المتعددة الأوجه في الأمد القريب والتي تهدف إلى تحفيز خلق فرص العمل للتعويض عن الخسائر الناجمة عن إعادة هيكلة الصناعات غير الفعّالة وإزالة القدرة الفائضة.
ومن ناحية أخرى، يواجه بنك الشعب الصيني المهمة التي لا يُحسَد عليها والمتمثلة في الحفاظ على استقرار سعر الصرف ومكافحة الانكماش، من خلال ضمان إتاحة السيولة اللازمة لدعم التحول من التصنيع إلى الخدمات والاستهلاك بأسعار معقولة. وبالنظر إلى حجم الاحتياطيات الرسمية التي أنفقتها الصين بالفعل لتحفيز الاقتصاد وتثبيت استقرار سعر الصرف، فضلاً عن حجم تدفقات رأس المال إلى الخارج ــ والتي تعادل ثلاثة أمثال فائض الحساب الجاري في العام الماضي ــ فإن التكتيكات مثل خفض متطلبات الاحتياطي الإلزامي سوف تشكل أهمية بالغة في هذا الصدد.
وسوف يضطر بنك الشعب الصيني بطبيعة الحال إلى إحكام الرقابة على الصرف الأجنبي. ولكنه يفكر أيضاً في غير ذلك من أدوات التحوط الكلي، مثل فرض شكل ما من أشكال ضريبة توبين على المعاملات المالية والتي اقترحت لأول مرة في عام 1972 من قِبَل الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد جيمس توبين، من أجل تثبيط تدفقات رأس المال المتقلبة.
يشكل كل هذا الخطة (أ) ــ الاستراتيجية الحتمية لوقف الانكماش في الصين. ولكن في ظل النظام العالمي المتعدد الأقطاب اليوم، لا تستطيع أي دولة منفردة أن تنقذ الاقتصاد العالمي من انكماش الدين. ولهذا السبب، يتعين على العالم أن ينظر أيضاً في تنفيذ استراتيجية مشتركة؛ ولنسمها الخطة البديلة (ب).
لا شك أن العمل الجماعي لن يكون سهلا ــ خاصة وأن بعض التدابير، مثل انتهاج سياسة نقدية أو مالية عالمية، استُبعِدَت في مؤتمر بريتون وودز عام 1944، حيث أنشأ زعماء العالم الهيكل الاقتصادي والمالي الدولي الذي ظل قائماً إلى يومنا هذا. ولكن في مواجهة تهديدات غير مسبوقة للاستقرار الاقتصادي العالمي، فربما حان الوقت لعقد مؤتمر آخر على غرار بريتون وودز لتحديد التدابير الجماعية الممكنة.
الواقع أن الحوافز التي يمكن تطبيقها وفيرة. ففي حين تواجه الاقتصادات المتقدمة الشيخوخة السكانية السريعة، وأعباء الدين العام الضخمة، والسياسات النقدية التي حُمِّلَت ما لا طاقة لها به، والسياسة المتعنتة، تعتمد قدرة الاقتصاد العالمي على الإفلات من مساره الحالي إلى حد كبير على الاقتصادات الناشئة. ذلك أن هذه الاقتصادات، برغم التحديات الخاصة التي تواجهها، تتمتع بتركيبة سكانية أكثر صحة وتشهد توسعاً حضرياً سريعا.
وهي نتيجة لهذا تتمتع بإمكانات هائلة لتحقيق مكاسب الإنتاجية، والتي من شأنها أن تعزز النمو الاقتصادي العالمي، والطلب الضخم على البنية الأساسية المستدامة للحد من استنزاف الموارد ومعالجة الانحباس الحراري العالمي.
يتمثل العائق الرئيس الذي يحول دون تحقيق إمكانات الاقتصادات الناشئة في الموارد المالية، مع عجز مؤسسات بريتون وودز عن توفير رأس المال اللازم. وإذا كان للعالم أن يفلت من فخ الديون والانكماش ــ ناهيك عن معالجة فجوة التفاوت المتزايدة الاتساع في الدخل والثروة ــ فمن الأهمية بمكان أن تتغير هذه الحال.
الواقع أن الذعر الذي شهدناه مؤخراً بسبب انخفاض قيمة الرنمينبي يسلط الضوء على سبب آخر مقنع للعمل الجماعي. ففي عالم اليوم، لا أحد في مأمن من تدفقات رأس المال الضخمة والمتقلبة ــ ولا حتى البلدان التي نجحت في تكديس كميات ضخمة من التأمين الذاتي في هيئة احتياطيات من النقد الأجنبي.
في الفترة 2007-2009، تمكنت الاقتصادات المتقدمة من الإفلات من أزمة سيولة طاحنة، وهو ما كان راجعاً إلى استعداد بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي للانخراط في مبادلات السيولة مع البنوك المركزية الرئيسية التابعة لدول حليفة للولايات المتحدة غالبا. ولن يتسنى للبلدان أن تنفذ تدابير الإنعاش المطلوبة بشدة، دون الخوف المفرط من هروب رؤوس الأموال و/أو خفض سعر الصرف، إلا بالاستعانة بنظام عالمي لتأمين السيولة.
وأخيرا، لابد من العمل الجماعي لجعل السياسة النقدية غير التقليدية أكثر فعالية. فحتى الآن، فشلت هذه السياسات في إنعاش الاقتصاد العالمي لأن البنوك التجارية وغيرها من الجهات المقرضة اختارت الاحتفاظ بالسيولة التي تلقتها من بنوكها المركزية، بدلاً من توجيهها إلى الاقتصاد الحقيقي من خلال توفير الائتمان للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم، والاستثمار في مشاريع البنية الأساسية الطويلة الأمد.
وليس من قبيل المصادفة أن أكبر البنوك والشركات وصناديق الاستثمار زادت أرصدتها النقدية في الفترة من 2010 إلى 2014 بنحو 3 تريليون دولار أميركي ــ وهو تقريباً المبلغ الذي وسعت به البنوك المركزية في بلدان العملات الاحتياطية ميزانياتها على مدى نفس الفترة.
من خلال تمكين البلدان من إزالة القدرة الفائضة، والحد من الاستدانة، وموازنة السياسات الضريبية ــ مع الحد من عدم اليقين الجيوسياسي في الوقت نفسه بجانب كل هذا ــ يساعد العمل الجماعي للهروب من الانكماش وتعزيز النمو في التخفيف من عزوف المؤسسات المالية عن خوض المجازفات، وبالتالي تحسين آليات تحويل وتسليم السياسات النقدية غير التقليدية.
صحيح أن التوصل إلى إجماع عالمي أمر بالغ الصعوبة دوما، ولكن في سياق اليوم، لا سبيل إلى تجنب هذه الضرورة. وإذا استمرت الدول في محاولة العمل بشكل منفرد فسوف يعاني العالم بأسره.