«يُعرَف لبنان عن حقّ بقدرته على التعافي»، توصيف ورد في البيان الختامي لـ «بعثة المادة الرابعة» في صندوق النقد الدولي التي اختتمت زيارتها الاستطلاعية السنوية للبنان.
وأكد هذا التوصيف نائب مدير دائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي عدنان مزراي، في حديث إلى «الحياة»، بقوله أن اقتصاد لبنان «فاجأ أشخاصاً كثراً ولسنوات، لأنه تمكّن من مقاومة الضغوط والصمود أمام التحديات والمشاكل، واستمراره في النمو والحفاظ على استقرار الوضع الماكرواقتصادي». وعزا ذلك إلى «تمتعه بقدرة على التكيّف مع كل الظروف السياسية والأمنية». لذا أمل في أن «يستمر في تسجيل نمو اقتصادي والسعي جدياً إلى عدم تحميله مزيداً من الأعباء والضغوط».
وفي مقابل هذا الاستنتاج الإيجابي، لم ينكر مزراي أن الوضع الاقتصادي في لبنان «صعب»، عازياً جزءاً كبيراً من الأسباب إلى «النزاعات القائمة في المنطقة، فضلاً عن الحالة السياسية الداخلية». لكن أقرّ بأن لبنان نجح، على رغم تداعيات الأوضاع الإقليمية على اقتصاده وكذلك الوضع السياسي الداخلي، «في تأمين استقرار سياسي وأمني وانسحب ذلك أيضاً على الاقتصاد». إذ توقع أن «ينمو بنسبة 2 في المئة هذه السنة». لكنه شدد على أن هذه النسبة «هي أقلّ بكثير من القدرات والإمكانات التي يتميّز بها الاقتصاد وقطاعاته». ولفت إلى أن لبنان «لم يقرّ الموازنات على مدى السنوات العشر الماضية»، مؤكداً ضرورة «صدورها هذه السنة، لأنها تشكل الإطار الشفاف لاتخاذ القرارات الاقتصادية والمالية».
وأشارت رئيسة بعثة لبنان في الصندوق أناليزا فيديلينو في حديث إلى «الحياة»، إلى العجز في الموازنة وعبء المديونية على مالية الدولة، لأن «جزءاً كبيراً من موارد الدولة تُستعمل لتغطية فوائد الدين». ورأت أن للاقتصاد «متطلّبات كثيرة تبدأ بالبنية التحتية المتطورة وتمرّ في تعزيز الإنفاق الاجتماعي ليستهدف المواطنين، وتحديداً أولئك الذين تأثروا بأزمة اللاجئين السوريين». لذا اقترحت «إجراء تعديلات في النظام الضريبي، ومحاولة التغيير في هيكلية النفقات العامة لمصلحة البنية التحتية والبرامج الاجتماعية».
وسلّطت فيديلينو الضوء على قطاع الكهرباء الذي يستنزف موارد مهمة من الموازنة، مشيرة إلى أن هذا الموضوع شكل بنداً أساساً في بيان البعثة، ومشددة على ضرورة «تصحيح وضع القطاع ومؤسسة الكهرباء لأن المجال مُتاح في هذا الإطار، للتخفيف من الأعباء عن الموازنة وعن القطاعات الإنتاجية والمواطنين الذين يدفعون فواتير إضافية للمولّدات للحصول على الطاقة». وأشارت إلى أن «95 في المئة من الشركات تستعمل المولّدات لتسيير أعمالها».
وفي ملف النزوح السوري وأعبائه، أشاد مزراي بداية بلبنان لاستضافته النازحين، لكن رأى أن هؤلاء «شكّلوا عبئاً ضخماً على الموازنة والبنية التحتية»، مركّزاً على «تأثيرهم في سوق العمل علماً أنهم أفادوا بعض جوانب من الاقتصاد». وأوضح أن هذا التأثير «برز في منافستهم اليد العاملة اللبنانية والمنتجين». وذكر أن الصندوق «طالب مراراً المجتمع الدولي بتحمّل جزء أكبر من هذا العبء».
وفي هذا المجال، أقرّ بأن الحكومة اللبنانية «لا تستطيع وحدها التعامل مع هذه المشكلة، وتحتاج إلى دعم أكيد من المجتمع الدولي، خصوصاً في ظل وضع المالية العامة المتمثل بعجز ومديونية كبيرين». لذا أمل، في انتظار تحرّك المجتمع الدولي، في أن «تبادر السلطات اللبنانية إلى تبنّي بعض الإجراءات لمعالجة المشاكل في قطاع الكهرباء»، مؤكداً أن «الحلول تقنية ومعروفة»، ومعتبراً أن التأخير في الحلّ مرده إلى «التجاذب السياسي المحلي». ونبّه إلى «خطورة مشكلة الكهرباء في انعكاسها سلباً على النمو والموازنة وميزان المدفوعات».
وعن تقويمه للقطاع المصرفي، أعلن مزراي أنه «يشكل دعامة أساسية للاقتصاد، ويتميّز بالاستقرار وامتلاكه رؤوس أموال وتحقيق الأرباح». وأشاد بـ «دور المصرف المركزي في إشرافه على القطاع ومراقبته».
ولفتت فيديلينو في هذا السياق إلى توافر السيولة والاحتياطات التي يملكها المركزي من العملات الأجنبية، ولاحظت أن «لا مؤشرات إلى ضغوط على سوق النقد التي تشهد هدوءاً واستقراراً». ورأت أن ذلك «يدلّ على الثقة الكبيرة في السوق اللبنانية، التي تنعكس تدفقاً للودائع»، مشددة على أنها «أكثر من كافية لتغطية حاجات الاقتصاد». ولم تغفل «العلاقة المتينة والقوية» بين البنك المركزي والحكومة التي «تساهم في شكل ملحوظ في استمرار الاستقرار».
وعن التحويلات المالية المرسلة من اللبنانيين العاملين في الخارج والمغتربين، قال مزراي إنها «ساهمت كثيراً في تأمين الموارد والسيولة للاقتصاد». فيما أكدت فيديلينو أن حركة التحويلات «مستقرة وهي تؤشر إلى الثقة في الاقتصاد اللبناني، وستبقى على هذه الوتيرة».
الركود السياسي ينعكس على الاقتصاد
وأبرز ما خلُصت إليه البعثة في بيانها، أن «الركود السياسيّ ينعكس في شكل متزايد على الاقتصاد، ويهدّد قدرة لبنان على التعافي». وفي الأمد القصير، أكدت ضرورة أن «تنظر السلطات إلى أبعد من التأثيرات الموقّتة لتراجع أسعار النفط، وأن تطرح سياسات اقتصادية ذات صدقية تشمل تصحيحاً دائماً لأوضاع الماليّة وخفضاً لمستويات الدَين العام».
وفي الأمد المتوسّط، رأت البعثة أن الاستقرار الاجتماعي «يتطلّب نموّاً مستداماً حافلاً بفرص العمل، وهو أمر لا يمكن تحقيقه في غياب إصلاح بنيوي يبدأ فوراً بقطاع الكهرباء». وأكدت أن لبنان يُعرف عن حقّ بقدرته على التعافي»، من دون أن تنفي «تصديه حالياً لبيئة محفوفة بكمّ استثنائيّ من الصعوبات». ونبّهت إلى أن «الشلل السياسي المحلّي المتزامن مع توتّرات إقليميّة، يعمل بدوره على تقويض الثقة».
وفي تقويم البعثة للنمو، اعتبرت أن «مستويات النموّ تبقى مخيّبة للآمال نتيجة عدم الاستقرار المحلّي والخارجي». وقدّرت «نسبة النموّ بـ2 في المئة خلال عام 2014، وسط توقّعات بتسجيل المستويات ذاتها هذه السنة».
ورصدت البعثة «تحقيق فائض أساس العام الماضي، لكن التدهور المالي سيستمر هذه السنة في غياب أيّ مبادرة حاسمة». ورجحت «تراجع الميزان الأولي إلى نحو 1.75 في المئة من الناتج المحلّي مع بقاء الدَين العام عند 132 في المئة من الناتج، وهو مرتفع قياساً إلى المعايير الدوليّة».
واعتبرت أن لـ «سوق الصرف والأسواق الماليّة قدرة على الصمود، على رغم المتطلّبات الماليّة الخارجيّة الضخمة». ولفتت إلى أن النموذج الاقتصادي اللبناني «يعتمد على الثقة، وتشكّل ثقة المستثمرين والجالية اللبنانية دعامة أساسيّة لقدرة لبنان المستمرّة على استقطاب الودائع، التي ساعدت على تمويل العجز الكبير في الموازنة والحساب الجاري».
وأوصت البعثة صنّاع السياسات بـ «إنشاء أرضيّة مشتركة لتخطّي الشلل السياسيّ الراهن». وحضت على «المباشرة فوراً في تصحيح أوضاع الماليّة العامّة، وإرساء الأسس الضروريّة لتحقيق نموّ مستدام أكبر وأكثر شموليّة». وأكدت أن «المجال مفتوح لزيادة الضرائب في شكل منصف». واشترطت لتعديل الرواتب «اعتماد مقياس موثوق للعائدات في تمويلها، وتطبيقها تدريجاً وألاّ تشمل مفعولاً رجعياً».
وحضّت السلطات اللبنانية على «إقرار موازنة شاملة لهذه السنة، لأنها تمثّل خطوة مهمة أولى في سبيل إرساء الثقة».
وفي قطاع الكهرباء، أكدت ضرورة «إصلاحه لأن التغذية غير الفعالة تشكل عقبة رئيسة أمام النمو». فيما لم تغفل أهمية «الحاجة الملحّة للمضيّ بالأجندة التشريعيّة».